بيوت ومساكن
دائمًا ما لفت نظري وأنا في الجامعة أن الطلاب المغتربين أمثالي كانوا يقولون عن الأماكن التي يعيشون فيها بـ"السكن" لأنهم يعتبرون تلك المنازل مجرد سكن مؤقت يأويهم خلال فترة الدراسة قبل العودة إلى البيوت. كنتُ مثلهم تمامًا أطلق على المنزل لقب السكن وليس البيت، الفارق البسيط بيني وبينهم أني لا أملكُ مكانًا آخر أعطيه لقب البيت، ولو بالكذب.
تنقلتُ في حياتي بين العديد من المساكن. غيرتُ محل سكني ١٦ مرة حتى الآن، إنه رقم عند ذكره أمام أي شخص يصاب بالدهشة خاصة وعمري ٢٩ عامًا فقط. أتفهم مشاعر أولئك الذين لا يصدقونني حين أقول ذلك، فأمي نفسها اندهشت عندما ذكرتُ الرقم أمامها ونحن نشرب القهوة يومًا ما، صدقتني حين أحصيتُ لها المنازل التي عشتُ فيها كلها، وآنذاك كانوا اثنا عشر بيتًا فقط.
سأحاول اختزال المسألة في جمل قصيرة؛ ولدتُ في بيت كبير في طنطا، لكنه من تلك البيوت فاخرة البنيان، هشة الداخل. كان في غرفتي شق كبير بعرض الحائط، لم يُفلح الجبس والأسمنت في إخفائه، وفي البيت شقوق أخرى لم تفلح الأيام في رأب صدعها. سرعان ما تركته وانتقلنا إلى بيت آخر في نفس الشارع، ثم انتقلنا للعيش في شقة أخرى في الطابق الأرضي لنفس البيت. كانت شديدة القسوة، شحيحة الخدمات، حارة طوال أيام السنة، الحمام قديم بلا بانيو، والمواسير ليست مبطنة في الحائط المُنشع بل بارزة تخلف انطباعًا كابوسيًا.
في الأيام الأولى فيها أصبت ُ بحالة من التوهان، الذي عانيتُ منه كثيرًا ولم أدرِ سببه آنذاك. كنتُ صغيرًا لم يتعد عمري الثانية عشر، لم أبلغ بعد، ولم تظهر ولو شعرة واحدة من شارب المراهقة. في يوم من تلك الأيام، في ظهيرة قائظة من صيف ٢٠٠٩ فيما مروحة قديمة تلفُ فوقي وتجلب بصريرها الصداع، أكثر مما تجلب من الهواء، بيننا أقلب في تلفزيون قديم أبحث عن شيء يسليني في إجازة الصيف التي كنتُ أقضيها فيما سبق في النادي أمارس السباحة التي أكرهها، وجدتُ بالصدفة فيلم آيس كريم في جليم، شاهدته فتأثرت. رغم أني على يقين أني لم أفهمه تمامًا.
حين قابلتُ محمد المنسي قنديل وكنتُ قد تخرجتُ في الجامعة، ورغم حبي الشديد لروايته كتيبة سوداء، ولكتابه عن كتاب الأغاني. سألته سؤالًا واحدًا فقط، لماذا لم يستمر في تأليف الأفلام؟!
قال لي ببساطة إنه سئم التعامل مع صناع الأفلام حتى كرهه، ومعظم المنتجين لا يفهمون. قلتُ له إن فيلم آيس كريم في جليم بمائة فيلم آخر، لقد غير حياتي!
شعر بالامتنان الشديد ولم يسألني كيف غير حياتي، فقد كان منشغلًا، وأنا بدوري لم أسعَ للشرح. شرح تلك المسألة سيكلفني الكثير من الكتابة.
في سن الثامنة عشر انتقلتُ للحياة في القاهرة لأول مرة. سعيتُ من خلال الثانوية العامة لهدف واحد، ليس للتفوق، وإنما لترك طنطا والحياة في القاهرة من أجل المزيد من الحرية. كنتُ أشعر أنني مللتُ تلك المدينة التي هي أصغر من أحلامي. كثيرًا تخيلتها تقتلني، لكني والفضل للبلوت تويست، نجوتُ منها وتعرضتُ للقتل في مدن ظننتها أكثر رحابة.
(مقطع من السيرة الذاتية)